فصل: تفسير الآيات رقم (89- 91)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 91‏]‏

‏{‏وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ‏(‏89‏)‏ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ‏(‏90‏)‏ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

ولما كان حاصل أمر يونس عليه السلام أنه خرج من بطن لم يعهد الخروج من مثله، عطف عليه قصة زكريا عليه السلام في هبته له ولداً من بطن لم يعهد الحمل من مثله في العقم واليأس ناظراً إلى أبيه إبراهيم عليه السلام أول من ذكر تصريفه في أحاد العناصر فيما اتفق له من مثل ذلك في ابنه إسحاق عليه السلام تكريراً لأعلام القيامة وتقريراً للقدرة التامة فقال‏:‏ ‏{‏وزكريا‏}‏ أي اذكره ‏{‏إذ نادى ربه‏}‏ نداء الحبيب القريب فقال‏:‏ ‏{‏رب‏}‏ بإسقاط أداة البعد ‏{‏لا تذرني فرداً‏}‏ أي من غير ولد يرث ما آتيتني من الحكمة‏.‏

ولما كان من الوارث من يحب من يحجبه من الإرث أو يشاركه فيه، ومنهم من لا يحب ذلك ويسعى في إهلاك من يحجبه أو ينقصه، ومنهم من يأخذ الإرث فيصرفه في المصارف القبيحة على ما تدعوه إليه شهوته وحاجته، ومنهم من يأخذه بعفة فينفذ وصايا الموروث ويصل ذا قرابته وأهل وده، ويتصدق عنه، ويبادر إلى كل ما كان يحبه وينفعه، كل ذلك لغنى نفسه وكرم طبعه مع كونه مجبولاً على الحاجة والنقص، وكان الله هو الغني الحميد، الحكيم المجيد، قال ملوحاً بمقصده في أسلوب الإلهاب والتهييج‏:‏ ‏{‏وأنت‏}‏ أي والحال أنك ‏{‏خير الوارثين*‏}‏ لأنك أغناهم عن الإرث وأحسنهم تصرفاً، وكثيراً ما تمنح إرث بعض عبيدك عبيداً آخرين، فأنت الحقيق بأن تفعل في إرثي من العلم والحكمة ما أحبه، فتهبني ولداً تمن عليه بذلك ‏{‏فاستجبنا له‏}‏ بعظمتنا وإن كان في حد من السن لا حراك به معه وزوجه في حال من العقم لا يرجى معه حبلها، فكيف وقد جاوزت سن اليأس، ولذلك عبر بما يدل على العظمة فقال‏:‏ ‏{‏ووهبنا له يحيى‏}‏ وارثاً حكيماً نبياً عظيماً ‏{‏وأصلحنا له‏}‏ خاصة من بين أهل ذلك الزمان ‏{‏زوجه‏}‏ أي جعناها صالحة لكل خير، خالصة له ولا سيما لما مننا عليه به من هذه الهبة بعد أن كانت بعقمها وكبرها غير صالحة له بوجه يقدر عليه غيرنا؛ ثم استأنف البيان لخيرية الموروث والوارث والمصلحة للولادة فقال، مؤكداً ترغيباً في مثل أحوالهم وأنها مما يلتذ بذكره ويعجب من أمره‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا‏}‏ مجبولين في أول ما خلقناهم جبلة خير، مهيئين لأنهم ‏{‏يسارعون في الخيرات‏}‏ أي يبالغون في الإسراع بها مبالغة من يسابق آخر، ودل على عظيم أفعالهم بقوله‏:‏ ‏{‏ويدعوننا‏}‏ مستحضرين لجلالنا وعظمتنا وكمالنا ‏{‏رغباً‏}‏ في رحمتنا ‏{‏ورهباً‏}‏ من سطوتنا ‏{‏وكانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏لنا‏}‏ خاصة ‏{‏خاشعين*‏}‏ ي خائفين خوفاً عظيماً يحملهم على الخضوع والانكسار‏.‏

ولما استدل على الساعة بما وهب لهؤلاء القوم من أهل الطاعة من التصرف في العناصر وغيرها إلى أن ذكر أنه خرق العادة في إيداع يحيى عليه الصلاة والسلام بين والدين لا يولد لمثلهما لأن أباه زكريا عليه السلام كان قد صار إلى حالة الكبر ويبس من الأعضاء عظيمة، وأمه كانت- مع وصولها إلى مثل تلك الحال- عاقراً في حال شبابها، تلاه بإبداع ابن خالته عيسى عليه السلام الذي هو علم للساعة على حال أغرب من حاله، فأخرجه من أنثى بلا ذكر، إشارة إلى قرب الوقت لضعف الأمر، كضعف الأنثى بالنسبة إلى الذكر، فقال‏:‏ ‏{‏والتي أحصنت فرجها‏}‏ أي حفظته من الحلال والحرام حفظاً يحق له أن يذكر ويتحدث به، لأنه غاية في العفة والصيانة، والتخلي عن الملاذ إلى الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة، مع ما جمعت إلى ذلك من الأمانة والاجتهاد في متانة الديانة ‏{‏فنفخنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة التي لا يداني أوجها نقص، ولا يقرب من ساحتها حاجة ولا وهن ‏{‏فيها‏}‏ أي في فرجها- كما التحريم، نفخاً هو من جناب عظمتنا؛ ودل على عظم خلوصه وصفائه بقوله‏:‏ ‏{‏من روحنا‏}‏ أي من روح يحق له أن يضاف إلينا لجلالته وطهارته، فكان من ذلك النفخ حبل وولد‏.‏

ولعله أضاف هنا النفخ إليها، لا إلى فرجها وحده، ليفيد أنه- مع خلق عيسى عليه السلام به وإفاضة الحياة عليه حساً ومعنى- أحياها هي به معنى بأن قوى به معانيها القلبية حتى كانت صديقة متأهلة لزواجها بخير البشر في الجنة، وخصت هذه السورة بهذا لأن مقصودها الدلالة على البعث الذي هو إفاضة الأرواح على الأموات، قال الرازي‏:‏ وعلى الجملة هذه عبارة عن إبداع عيسى عليه السلام في رحم مريم عليها السلام من غير نطفة‏.‏

ولما قدمته من السر في إفاضة النفخ إلى حملتها، أتبع ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وجعلناها وابنها‏}‏ أي بتلك العظمة العظمى ‏{‏ءاية‏}‏ جعلهما نفس الآية لكثرة ما كان فيهما من الأعاجيب‏.‏ ولما كان ما فيهما من ذلك ليس مقصوداً لذاته، بل لتقرير أمر عيسى عليه السلام، لم يقل‏:‏ آيتين، أو لئلا يظن أن نفس العدد مقصود فينقص المعنى ‏{‏للعالمين*‏}‏ أي في أن الله قادر على كل شيء لا سيما البعث الذي هو آيته، يتحدث بذلك بعدهما جيل بعد جيل، وعالم بعد عالم، وأمة بعد أمة، إلى قيام الساعة التي هو علمها، وحفظنا ابنها بعلمنا وحكمتنا وقدرتنا وعظمتنا ممن كاده، ورفعناه إلى محل قدسنا، وختم به الأنبياء المذكورين هنا لأنه خاتم المجددين لهذا الدين المحمدي، وهو دليل الساعة، وكتابة أعظم كتاب بعد التوراة التي ابتدأ بصاحبها ذكر هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حاشى القرآن الذي عجزت لبلاغته الإنس والجان‏.‏

ذكر شيء من دلائل كونه آية من الإنجيل‏:‏ قال متى أحد المترجمين الأربعة للإنجيل وأغلب السياق له بعد أن ذكر مقتل يحيى ابن زكريا عليهما السلام كما مضى في آل عمران‏:‏ فلما سمع يسوع مضى من هناك في سفينة إلى البرية مفرداً، وسمع الجمع فتبعوه ماشين من المدينة، فلما خرج أبصر جمعاً كثيراً فتحنن عليهم وأبرأ أعلاءهم ومرضاهم وقال مرقس‏:‏ فلما خرج يسوع أبصر جمعاً كثيراً فتحنن عليهم لأنهم كانوا كخراف لا راعي لها فبدأ يعلمهم، وبعد ساعات كثيرة جاء تلاميذه إليه، وقال متى‏:‏ ولما كان المساء أتى تلاميذه وقالوا‏:‏ إن المكان قفر، والساعة قد جازت، أطلق الجمع يذهبوا إلى القرى المحيطة فيبتاغوا لهم طعاماً، فقال لهم‏:‏ أعطوهم أنتم ليأكلوا، فقالوا‏:‏ ليس هاهنا، وأمر بإجلاس الجميع على العشب، وقال مرقس‏:‏ الأخضر أحزاباً أحزاباً، فجلسوا رفاقاً رفاقاً مائة مائة وخمسين خمسين، وقال يوحنا‏:‏ فقال لفيلبس‏:‏ من أين نبتاع لهؤلاء خبزاً‏؟‏ قاله ليجربه، فقال فيلبس‏:‏ ما يكفيهم خبز بمائتي دينار، وقال إندراوس أخو شمعون الصفاء‏:‏ إن هاهنا حدثاً معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان، فقال يسوع‏:‏ مروا الناس بالجلوس، وقال متى‏:‏ وأخذ الخمس خبزات والحوتين، ونظر إلى السماء وبارك وقسم وأعطى الخبز لتلاميذه، وقال مرقس‏:‏ وقسم الحوتين وناول التلاميذ الجميع فأكل جميعهم وشبعوا ورفعوا من فضلات الكسر اثني عشر سلاًّ مملوءة، ومن السمك، وكان عدد الآكلين خمسة آلاف رجل، وقال متى‏:‏ سوى النساء والصبيان، وقال يوحنا‏:‏ فقالوا‏:‏ حقاً إن هذا هو النبي الجائي إلى العالم، فعلم يسوع أنهم اجتمعوا ليحتفظوا به ويصيروه ملكاً، فتحوّل إلى الجبل، وقال متى‏:‏ وللوقت أمر تلاميذه أن يصعدوا إلى السفينة ويسبقوه إلى العبر ليطلق الجموع، وقال يوحنا‏:‏ ليعبروا إلى الكفر ناحوم وكان ظلاماً، وقال متى‏:‏ فأطلق الجمع وصعد إلى الجبل منفرداً يصلي، وقال مرقس‏:‏ وللوقت تقدم إلى تلاميذه بركوبهم السفينة وأن يسبقوه إلى العبر عند بيت صيدا ليطلق هو الجماعة، فلما ودعهم وذهب إلى الجبل ليصلي، قال متى‏:‏ فلما كان المساء وكان وحده هناك والسفينة في وسط البحر، فضربتها الأمواج لمعاندة الريح لها، قال يوحنا‏:‏ فمضوا نحو خمسة وعشرين غلوة أو ثلاثين، وقال متى‏:‏ وفي الهجعة الرابعة من الليل جاءهم ماشياً على البحر فاضطربوا وقالوا‏:‏ إنه خيال، ومن خوفهم صرخوا، فكلمهم قائلاً‏:‏ أنا هو، لا تخافوا، أجابه بطرس وقالوا‏:‏ إن كنت أنت هو فمرني أن آتي إليك على الماء، فقال له‏:‏ تعال‏!‏ فنزل بطرس من السفينة ومشى على الماء، فرأى قوة الريح فخاف، وكاد أن يغرق فصاح قائلاً‏:‏ يا رب نجني‏!‏ فللوقت مد يسوع يده وأخذه وقال له‏:‏ يا قليل الأمانة‏!‏ لم شككت‏؟‏ فلما صعد السفينة سكنت الريح، قال يوحنا‏:‏ وللوقت صارت إلى الأرض التي أرادوها، وفي الغد نظرت الجموع الذين كانوا معه في عبر البحر أن ليس هناك سوى سفينة واحدة، وأن يسوع لم يركبها مع تلاميذه لكن تلاميذه مضوا وحدهم، وكانت سفن أخر وافت من طبرية حتى انتهت إلى الموضع الذي أكلوا الخبز الذي بارك عليه، فحين لم ير الجماعة يسوع هناك ولا تلاميذه، ركبوا تلك السفن، وأتوا إلى كفر ناحوم يطلبون يسوع، فلما قصدوه في عبر البحر قالوا له‏:‏ يا معلم‏!‏ متى صرت هاهنا‏؟‏ أجاب يسوع وقال‏:‏ الحق الحق أقول لكم‏!‏ إنكم لم تطلبوني لنظركم الآيات بل لأكلكم الخبز فشبعتم، اعلموا لا للطعام الزائل بل للطعام الباقي في الحياة المؤبدة الذي يعطيكموه ابن البشر، ثم قال‏:‏ لست أعمل بمشيئتي، لكن بمشيئة الذي أرسلني، ثم قال‏:‏ قد كتب في الأنبياء أنهم يكونون بأجمعهم معلمين، الحق أقول لكم‏!‏ من يؤمن بي فله الحياة الدائمة، قالوا‏:‏ ما نصنع حتى نعمل أعمال الله‏؟‏ قال‏:‏ عمل الله هو أن تؤمنوا بمن أرسله، قال متى‏:‏ ولما عبروا جاؤوا إلى أرض جناشر، قال مرقس‏:‏ فأرسوا وخرجوا من السفينة- انتهى‏.‏

فعرفه أهل ذلك المكان وأرسلوا إلى جميع تلك الكور فقدموا إليه كل المسقومين وطلبوا إليه أن يلمسوا طرف ثوبه فقط، وكل من لمسه خلص‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 97‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ‏(‏92‏)‏ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ‏(‏93‏)‏ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ‏(‏94‏)‏ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏95‏)‏ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ‏(‏96‏)‏ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

ولما دل ما مضى من قصص هؤلاء الأنبياء وغيرهم على أن لله القدرة الباهرة، القوة البالغة الشاملة للبعث وغيره، وكان ذلك دالاًّ على التوحيد الذي هو أصل الدين، وأنهم كلهم متفقون عليه بالتصريح من البعض هنا ومن الباقين فيما سبق، كان إثباته فذلكة هذه القصص وما تقدمها من هذه السورة، فلذلك اتصل به قوله مخاطباً لمن قال لهم‏:‏ أفأنتم له منكرون‏:‏ ‏{‏إن هذه‏}‏ أي الأنبياء الذين أرسلناهم قبل نبيكم صلى الله عليه وسلم رجالاً نوحي إليهم كما أنه رجل نوحي إليه لا آباؤكم ولا ما وجدتموه عليه ‏{‏أمتكم‏}‏ أي مقصودكم أيها الخلق بالاقتداء في الاهتداء، حال كونها ‏{‏أمة‏}‏ قال البغوي‏:‏ وأصل الأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد- انتهى‏.‏ وأكد سبحانه هذا المعنى فقال‏:‏ ‏{‏واحدة‏}‏ كما في الخبر أنهم أولاد علات‏.‏ أمهاتهم شتى ودينهم واحد‏.‏ لا اختلاف بينهم أصلاً في التوحيد الذي هو الأصل ولا في توجيه الرغبات إلينا، وقصر النظر علينا، علماً منهم بما لنا من صفات الكمال، وأن كل شيء فإلينا مفتقر، ولدينا خاضع منكسر، فاتبعوهم في ذلك، لا تحيدوا عنهم تضلوا، وإنما فرقناهم وجعلناهم عدداً بحسب الأمم المتشعبة في الأزمان المتطاولة، وأنا لم نجعل لأحد منهم الخلد، ولغير من الحكم، فبثثناهم في الأقطار، حتى ملؤوها من الأنوار‏.‏

ولما كان المقصود تعيين المراد من غير لبس، عدل عن صيغة العظمة فقال‏:‏ ‏{‏وأنا ربكم‏}‏ أي لا غيري، في كل زمان وكل مكان، لكل أمة، لأني لا أتغير على طول الدهر، ولا يشغلني شأن عن شأن ‏{‏فاعبدون*‏}‏ دون غيري فإنه لا كفوء لي‏.‏

ولما كان من المعلوم أنهم لم يفعلوا، أعرض إلى أسلوب الغيبة إيذاناً بالغضب، فكان التقدير في جواب من كأنه قال‏:‏ ما فعلوا‏؟‏‏:‏ لم يطيعوا أمري في الاجتماع على ما جمعتهم عليه من عبادتي التي هي سبب لجلب كل خير، ودفع كل ضير ولا افتدوا في ذلك بالكمّل من عبادي، فعطف عليه قوله ‏{‏وتقطعوا‏}‏ أي مخالفة للأمر بالاجتماع ولما كان الدين الحق من الجلاء والعظمة والملاءمة للنفوس بحيث لا يجهله ولا يأباه أحد نصح لنفسه وإن جهله، كفى أدنى تنبيه في المبادرة إليه وترك ما سواه كائناً ما كان، فكان خروج الإنسان عنه بعد أن كان عليه في غاية البعد فضلاً عن أن يتكلف ذلك بمنازعة غيره المؤدية إلى الافتراق والتباغض ولا سيما إن كان ذلك الغير قريبه أو صديقه، وكانت صيغة التفعل من القطع صريحة في التفرق، وتفيد العلاج والتكلف، وكانت تأتي بمعنى التفعيل والاستفعال، عبر بها‏.‏

ولما كان في غاية البعد أن يقطع الإنسان أمر نفسه، كان تقديم الأمر أهم فقال‏:‏ ‏{‏أمرهم‏}‏ فنصبه بفعل التقطع لأنه بمعنى التقطيع كما قاله البغوي وغيره، أو بمعنى الاستفعال كما قالوا في تجبر وتكبر‏.‏

ولما كان في غاية من العجب أن يكون التقطيع واقعاً منهم بهم وأن يكون مستغرقاً لظرفه، قال‏:‏ ‏{‏بينهم‏}‏ أي فكانوا فرقاً كل فرقة على شعبة من ضلال، زينها لها هواها، فلم يدعوا شيئاً من الأمر بغير تقطيع، وكان العطف بالواو دون الفاء كما في المؤمنون لأن ترك العبادة ليس سبباً للتقطع، بل ربما كان عنه الاجتماع على الضلال، كما يكون في آخر الزمان وكما قال تعالى ‏{‏كان الناس أمة واحدة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏ الآية ‏{‏وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ فماذا يفعل بهم‏؟‏ قال ما هو غاية في الدلالة على باهر العظمة وتام القدرة ليكون أشد في الوعيد، وصادع التهديد‏:‏ ‏{‏كل‏}‏ أي من هذه الفرق وإن بالغ في التمرد ‏{‏إلينا‏}‏ على عظمتنا التي لا يكافئها شيء، لا إلى غيرنا ‏{‏راجعون *‏}‏ فنحكم بينهم فيتسبب عن ذلك أنا نجازيهم إقامة للعدل فنعطي كلاًّ من المحق التابع لأصفيائنا والمبطل المائل إلى الشياطين أعدائنا ما يستحقه، وذلك هو معنى قوله تعالى، فارقاً بين المحسن والمسيء تحقيقاً للعدل وتشويقاً بالفضل‏:‏ ‏{‏فمن يعمل‏}‏ أي منهم الآن من ‏{‏الصالحات وهو‏}‏ أي والحال أنه ‏{‏مؤمن‏}‏ أي بان لعمله على الأساس الصحيح ‏{‏فلا كفران‏}‏ أي إبطال بالتغطية ‏{‏لسعيه‏}‏ بل نحن نجزيه عليه بما يستحقه ونزيده من فضلنا ‏{‏وإنا له‏}‏ أي لسعيه الآن على عظمتنا ‏{‏كاتبون*‏}‏ وما كتبناه فهو غير ضائع، بل باق، لنطلعه على يوم الجزاء بعد أن نعطيه قدرة على تذكره، فلا يفقد منه شيئاً قل أو جل، ومن المعلوم أن قسميه «ومن يعمل من السيئات وهو كافر فلا نقيم له وزناً» و«من عمل منها وهو مؤمن فهو في مشيئتنا»، ولعله حذف هذين القسمين ترغيباً في الإيمان‏.‏

ولما كان هذا غير صريح في أن هذا الرجوع بعد الموت، بينه بقوله‏:‏ ‏{‏وحرام‏}‏ أي وممنوع ومحجور ‏{‏على قرية‏}‏ أي أهلها ‏{‏أهلكناها‏}‏ أي بالموت بعظمتنا ‏{‏أنهم لا يرجعون*‏}‏ أي إلينا بأن يذهبوا تحت التراب باطلاً من غير إحساس، بل إلينا بموتهم رجعوا فحبسناهم في البرزخ منعمين أو معذبين نعيماً وعذاباً دون النعيم والعذاب الأكبر، ولقد دل على قدرته قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا فتحت‏}‏ بفتح السد الذي تقدم وصفنا له، وأن فتحه لا بد منه وقراءة ابن عامر بالتشديد تدل على كثرة التفتيح أو على كثرة الخارجين من الفتح وإن كان فرحة واحدة كما أشار إطلاق قراءة الجماعة بالتخفيف ‏{‏يأجوج ومأجوج‏}‏ فخرجوا على الناس؛ وعبر عن كثرتهم التي لا يعلمها إلا هو سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ أي والحال أنهم ‏{‏من كل حدب‏}‏ أي نشز عال من الأرض ‏{‏ينسلون*‏}‏ أي يسرعون، من النسلان وهو تقارب الخطا مع السرعة كمشي الذئب، وفي العبارة إيماء إلى أن الأرض كرية ‏{‏واقترب الوعد الحق‏}‏ وهو حشر الأموات الذي يطابقه الواقع، إذا وجد قرباً عظيماً، كأن الوعد طالب له ومجتهد فيه‏.‏

ولما دلت صيغة «افتعل» على شدة القرب كما في الحديث أن الساعة إذ ذاك مثل الحامل المتمّ، علم أن التقدير جواباً لإذا‏:‏ كان ذلك الوعد فقام الناس من قبورهم‏:‏ ‏{‏فإذا هي شاخصة‏}‏ أي واقفة جامدة لا تطرف لما دهمهم من الشدة، ويجوز وهو أقرب أن تكون إذا هذه الفجائية هي جواب إذا الشرطية، وهي تقع في المجازات سادة مسد الفاء، فإذا جاءت الفاء معها متفاوتة على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد، فالمعنى‏:‏ إذا كان الفتح ووقع ما تعقبه فاجأت الشخوص ‏{‏أبصار الذين كفروا‏}‏ أي منهم، لما بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبونه من الأهوال، قائلين‏:‏ ‏{‏يا ويلنا‏}‏ أي حضرنا الويل فهو نديمنا فلا مدعو لنا غيره ‏{‏قد كنا‏}‏ أي في الدنيا ‏{‏في غفلة من هذا‏}‏ أي مبتدئة من اعتقاد هذا البعث فكنا نكذب به فعمتنا الغفلة‏.‏

ولما كان من الوضوح في الدلائل والرسوخ في الخواطر بحيث لا يجهله أحد، أضربوا عن الغفلة فقالوا‏:‏ ‏{‏بل كنا ظالمين*‏}‏ أي بعدم اعتقاده واضعين الشيء في غير موضعه حيث أعرضنا عن تأمل دلائله، والنظر في مخايله، وتقبل كلام الرسل فيه، فأنكرنا ما هو أضوأ من الشمس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 105‏]‏

‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ‏(‏98‏)‏ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏99‏)‏ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏100‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ‏(‏101‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ‏(‏102‏)‏ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏103‏)‏ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏104‏)‏ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

ولما كان هذا محلاًّ يخطر بالبال فيه آلهتهم بما يترجونه منها من النفع، قال مخاطباً لهم إرادة التعنيف والتحقير‏:‏ ‏{‏إنكم‏}‏ وأكده لإنكارهم مضمون الخبر‏:‏ ‏{‏وما تعبدون‏}‏ أيها المشركون من الأصنام والشياطين؛ ولما كان يتعبدون له سبحانه طوعاً وكرهاً مع الإشراك، قيد بقوله دالاًّ على أن رتبة ما عبدوه من أدنى المراتب الكائنة تحت رتبته سبحانه‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له؛ ولما كانوا يرمى بهم في جهنم رمي الحجارة الصغار التي تسمى الحصباء إلى المحصوب إسراعاً وإكراهاً، فيكونون وقودها من غير إخراج، قال‏:‏ ‏{‏حصب جهنم‏}‏ أي الطبقة التي تلقى المعذب بها بالتجهم والعبوسة والتكره؛ ثم أكد ذلك بقوله استئنافاً‏:‏ ‏{‏أنتم لها واردون*‏}‏ أي داخلون دخول ورد الحمى على حالة هي بين السواد بالدخان والاحمرار باللب‏.‏

ولما قرعهم من هذا الكلام بما لا جواب لهم عنه غير المكابرة، أعرض عنهم الخطاب استهانة بهم واحتقاراً لهم فقال‏:‏ ‏{‏لو كان هؤلاء‏}‏ أي الذين أهلوهم لرتبة الإلهية وهم في الحقارة بحيث يقذف بهم في النار قذفاً ‏{‏ءالهة‏}‏ أي كما زعم العابدون لهم ‏{‏ما وردوها‏}‏ أي جهنم أصلاً، فكيف على هذه الصفة؛ ثم أخبر عنهم وعنها بقوله‏:‏ ‏{‏وكل‏}‏ أي منهم ومنها ‏{‏فيها‏}‏ أي جهنم ‏{‏خالدون*‏}‏ لا انفكاك لهم عنها، بل يحمى بكل منهم فيها على الآخر ‏{‏لهم‏}‏ أي لمن فيه الحياة من المذكورين العابدين مطلقاً والمعبودين الراضين كفرعون ‏{‏فيها زفير‏}‏ أي تنفس عظيم على غاية من الشد والمد‏.‏ تكاد تخرج معه النفس، ويقرنون بآلهتهم زيادة في عذابهم حيث جعل المعبود الذي كان يطلب من السعادة زيادة في الشقاوة فصار عدواً ولا يكون أنكأ من مقارنة العدو‏.‏

ولما كانت تعمية الأخبار مما يعدم القرار، ويعظم الأكدار، قال ‏{‏وهم فيها لا يسمعون*‏}‏ حذف المتعلق تعميماً لكل مسموع، قال ابن كثير‏:‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا على بن محمد الطنافسي ثنا ابن فضيل ثنا عبد الرحمن- يعني المسعودي- عن أبيه قال‏:‏ قال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ إذا بقي من يخلد في النار جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار فلا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره، ثم تلا عبد الله- يعني هذه الآية، قال‏:‏ ورواه ابن جرير من حديث حجاج بن محمد عن المسعودي عن يونس بن خباب عن ابن مسعود فذكره‏.‏

ولما ذكر حالهم وحال معبوديهم بغاية الويل، كان موضع السؤال عمن عبدوهم من الصالحين من نبي أو ملك وغيرهما من جميع من عبده سبحانه لا يشرك به شيئاً، فقال مبيناً أنهم ليسوا مرادين لشيء من ذلك على وجه يعمهم وغيرهم من الصالحين‏:‏ ‏{‏إن الذين سبقت لهم منا‏}‏ أي ولنا العظمة التي لا يحاط بها ‏{‏الحسنى‏}‏ أي الحكم بالموعدة البالغة في الحسن في الأزل سواء ضل بأحد منهم الكفار فأطروه أو لا ‏{‏أولئك‏}‏ أي العالو الرتبة ‏{‏عنها‏}‏ أي جهنم‏.‏

ولما كان الفوز مطلق الإبعاد عنها لا كونه من مبعد معين، قال‏:‏ ‏{‏مبعدون*‏}‏ برحمة الله لأنهم أحسنوا في العبادة واتقوا، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؛ قال ابن كثير في تفسيره‏:‏ قال أبو بكر بن مردويه‏:‏ حدثنا محمد بن علي بن سهل ثنا محمد بن حسن الأنماطي ثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة ثنا يزيد بن أبي حكيم أن الحكم- يعني ابن أبان- عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ جاء عبد الله بن الزبعرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون‏}‏ قال ابن الزبعرى‏:‏ قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم أكل هؤلاء في النار مع آلهتنا‏؟‏ فنزلت ‏{‏ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون‏}‏ ثم نزلت ‏{‏إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون‏}‏ رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابة الأحاديث المختارة انتهى‏.‏ وفي السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه اعتراض ابن الزبعرى قال‏:‏ «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته» وقد أسلم ابن الزبعرى بعد ذلك ومدح النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما كان أقل ما ينكئ من المكروه سماعه، قال‏:‏ ‏{‏لا يسمعون حسيسها‏}‏ أي حركتها البالغة وصوتها الشديد، فكيف بما دونه لأن الحس مطلق الصوت أو الخفي منه كما قال البغوي، فإذا زادت حروفه زاد معناه ‏{‏وهم‏}‏ أي الذين سبقت لهم منا الحسنى ‏{‏في ما‏}‏ ولما كانت الشهوة- وهي طلب النفس اللذة- لا تكون إلا بليغة، عبر بالافتعال دلالة على عظيم ما هم فيه من اللذة فقال‏:‏ ‏{‏اشتهت أنفسهم‏}‏ في الجنة ‏{‏خالدون*‏}‏ أي دائماً أبداً‏.‏

ولما كان معنى ذلك أن سرورهم ليس له زوال، أكده بقوله‏:‏ ‏{‏لا يحزنهم‏}‏ أي يدخل عليهم حزناً- على قراءة الجماعة حتى نافع بالفتح، عن حزنه، أو جعلهم حزبين- على قراءة أبي جعفر بضم ثم كسر، من أحزنه- رباعياً، فهي أشد، فالمنفي فيها كونه يكون لهم صفة ‏{‏الفزع الأكبر‏}‏ أي فما الظن بما دونه ‏{‏وتتلقاهم‏}‏ أي تلقياً بالغاً في الإكرام ‏{‏الملائكة‏}‏ حيثما توجهوا، قائلين بشارة لهم‏:‏ ‏{‏هذا يومكم‏}‏ إضافة إليهم لأنهم المنتفعون به ‏{‏الذي كنتم‏}‏ في الدنيا‏.‏

ولما تطابق على الوعد فيه الرسل والكتب والأولياء من جميع الأتباع، بنى الفعل للمفعول إفادة للعموم فقال‏:‏ ‏{‏توعدون*‏}‏ أي بحصول ما تتمنون فيه من النصر والفوز العظيم، والنعيم المقيم، فأبشروا فيه بجميع ما يسركم‏.‏

ولما كانت هذه الأفعال على غاية من الأهوال، تتشوف بها النفس إلى معرفة اليوم الذي تكون فيه، قال تعالى شافياً لعيّ هذا السؤال، زيادة في تهويل ذلك اليوم لمن له وعي‏:‏ ‏{‏يوم‏}‏ أي تكون هذه الأشياء يوم ‏{‏نطوي‏}‏ أي بما لنا من العظمة الباهرة ‏{‏السماء‏}‏ طياً فتكون كأنها لم تكن؛ ثم صور طيّها بما يعرفون فقال مشبهاً للمصدر الذي دل عليه الفعل‏:‏ ‏{‏كطيّ السجل‏}‏ أي الكتاب الذي له العلو والقدرة على مكتوبه ‏{‏للكتب‏}‏ أي القرطاس الذي يكتبه ويرسله إلى أحد، وإنما قلت ذلك لأن السجل يطلق على الكتاب وعلى الكاتب- قاله في القاموس، واختير للفاعل لفظ السجل لما مضى في سورة هود من أن هذه المادة تدور على العلو، وللمطوي لفظا الكتاب الدال على الجمع، لكونه لازماً للطي، مع أن ذلك أنسب لما جعل كل منهما مثالاً له، وقراءة المفرد لمقابلة لفظ السماء، والجمع للدلالة على أن المراد الجنس، فجميع السماوات تطوى؛ قال ابن كثير‏:‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي ثنا محمد بن أحمد بن أحمد بن الحجاج الرقي حدثنا محمد بن سلمة عن أبي الواصل عن أبي المليح عن الأزدي عن أبي الجوزاء الأزدي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ يطوي الله السماوات السبع بما فيها من الخليفة، والأرضين السبع بما فيها من الخليفة، يطوي ذلك كله بيمينه حتى يكون ذلك بمنزلة خردلة‏.‏

ولما كان هذا عند من لا يعلم أعظم استبعاداً من استبعادهم إعادة الموتى، قال دالاًّ عليه مقرباً له إلى العقول بتشبيه الإعادة بالإبداء، في تناول القدرة لهما على السواء، فإنه كما أخرجه بعلم من خزائن قدرته كذلك يرده بعلمه في خزائن قدرته، كما يصنع في نور السراج ونحوه إذا أطفئ، فكذا في غيره من جميع الأشياء ‏{‏كما‏}‏ أي مثل ما ‏{‏بدأنا‏}‏ أي بما عُلم لنا من العظمة ‏{‏أول خلق‏}‏ أي تقدير أيّ تقدير كان، نكره ليفيد التفصيل واحداً واحداً، بمعنى أن كل خلق جل أو قل سواء في هذا الحكم، وهو أنا ‏{‏نعيده‏}‏ أي بتلك العظمة بعينها، غير ناسين له ولا غافلين ولا عاجزين عنه، فما كان متضامّ الأجزاء فمددناه نضمه بعد امتداده، وما كان ميتاً فأحييناه نميته بعد حياته، وما كان حياً فأمتناه نحييه بعد موته، ونعيد منهم من التراب من بدأناه منه، والحاصل أن من أوجد شيئاً لا يبعد عليه التصرف فيه كيفما كان؛ روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

«إنكم محشورون إلى الله عراة غرلاً ‏{‏كما بدأنا أول الخلق نعيده‏}‏- الآية، أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، ألا إنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول‏:‏ يارب‏!‏ أصحابي‏!‏ فيقال‏:‏ لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح ‏{‏كنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم- إلى قوله- شهيد‏}‏ فيقال‏:‏ إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» ثم أعلم أن ذلك أمر لابد منه بالتعبير بالمصدر تأكيداً لما أنكروه وبالغوا في إنكاره فقال‏:‏ ‏{‏وعداً‏}‏ وأكد بقوله‏:‏ ‏{‏علينا‏}‏ وزاده بقوله‏:‏ ‏{‏إنا كنا‏}‏ أي أزلاً وأبداً، على حالة لا تحول ‏{‏فاعلين‏}‏ أي شأننا أن نفعل ما نريد، لا كلفة علينا في شيء من ذلك بوجه‏.‏

ولما ذكر صدقه في الوعد وسهولة الأفعال عليه، وكان من محط كثير مما مضى أن من فعل ما لا يرضي الله غيّر عليه، كائناً من كان، ومن فعل ما أمره به نصره وأيده ولو بعد حين، كما أشير إليه بقوله تعالى ‏{‏قل ربي يعلم القول في السماء والأرض‏}‏ وما بعده من أشكاله، حتى ختم بقوله ‏{‏أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها‏}‏ الآية، قال تعالى عاطفاً على ‏{‏لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم‏}‏ وما عطف عليه من أشباهه مذكراً بما وعد على لسان داود عليه السلام‏:‏ ‏{‏ولقد كتبنا‏}‏ أي على عظمتنا التي نفوذها محقق لا تخلف له أصلاً ‏{‏في الزبور‏}‏ أي الذي أنزلناه على داود عليه السلام‏.‏

ولما كان المكتوب المشار إليه لم يستغرق ما بعد الذكر المراد من هذا الزبور، أشار إلى التبعيض بإثبات الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعد الذكر‏}‏ أي الكلام الداعي إلى الله تعالى الدال عليه من الدعاء والمواعظ والتسبيح والتمجيد الذي ابتدأنا به الزبور ‏{‏أن الأرض‏}‏ أي جنسها الشامل لبقاع أرض الدنيا كلها ولأرض المحشر والجنة وغير ذلك مما يعلمه الله ‏{‏يرثها عبادي‏}‏ وحقق ما أفادته إضافتهم إليه من الخصوص بقوله‏:‏ ‏{‏الصالحون*‏}‏ أي المتخلقون بأخلاق أهل الذكر، المقبلين على ربهم، الموحدين له، المشفقين من الساعة، الراهبين من سطوته، الراغبين في رحمته، الخاشعين له- كما أشرنا إليه بقولنا ‏{‏قل ربي يعلم القول‏}‏ وما ضاهاه وبذكر ما سلف في هذه السورة من شاهد ذلك من قصص هؤلاء الأنبياء الذي ضمنّاها بعض أخبارهم دلالة على أن العاقبة لمن أرضانا ‏{‏لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 13-14‏]‏ ‏{‏إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 128‏]‏ ‏{‏أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 11‏]‏ وفي هذا إشارة بالبشارة بأنه تعالى يورث هذه الأمة على ضعفها ما أورث داود وابنه سليمان عليهما الصلاة والسلام على ما أعطاهما من القوة من إلانة الحديد والريح والحيوانات كلها من الجن والإنس والوحش والطير وغير ذلك، والمراد بهذا الكلام- والله أعلم- ظاهره، فإنه ابتدأ سبحانه الزبور بالأذكار والمواعظ إلى أن قال في المزمور السادس والثلاثين وهو قبل ربعه- هذا اللفظ بعينه‏.‏

بيان ذلك‏:‏

المزمور الأول‏:‏ طوبى للرجل الذي لا يتبع رأي المنافقين، ولم يقف في طريق الخاطئين، ولم يجلس في مجالس المستهزئين، لكن في ناموس الرب مشيئته، وفي سننه يتلوا ليلاً ونهاراً، فيكون كمثل الشجرة المغروسة على مجاري المياه التي تعطي ثمرتها في حينها، وورقها لا ينتثر، وكل ما يعمل يتم، ليس كذلك المنافقون، بل كالهباء الذي تذريه الرياح عن وجه الأرض، فلهذا لا يقوم المنافقون في القضاء ولا الخطأة في مجمع الصديقين، لأن الرب عالم بطريق الأبرار، وطريق المنافقين تبيد‏.‏

المزمور الثاني‏:‏ لماذا ارتجت الشعوب‏؟‏ وهدت الأمم بالباطل‏؟‏ قامت ملوك الأرض ورؤساؤها وائتمروا جميعاً على الرب وعلى مسيحه قائلين لنقطع أغلالهما ونلقي عنا سيرهما، الساكن في السماء يضحك بهم، والرب يمقتهم، حينئذ يكلمهم بغضبه، وبسخطه يذهلهم، أنا أقمت ملكاً منهم على صهيون جبل قدسه، لأخبر ميثاق الرب، الرب قال لي‏:‏ أنت ابني، أنا اليوم ولدتك، سلني فأعطيك الشعوب، ميراثك وسلطانك على أقطار الأرض، ترعاهم بقضيب من حديد، ومثل آنية الفخار تسحقهم، من الآن تفهموا أيها الملوك‏!‏ تأدبوا يا جميع قضاة الأرض‏!‏ اعبدوا الرب بخشية، سبحوه برعدة، الزموا الأدب لئلا يسخط الرب عليكم فتضلوا عن سبيله العادلة، إذا ما توقد رجزه عن قليل، طوباهم المتوكلين عليه‏.‏

المزمور الخامس‏:‏ استمع يارب قولي داعياً، وكن لدعائي مجيباً، وأنصت إلى صوت تضرعي، فإنك ملكي وإلهي، وإني لك أصلي في غدواتي، استمع يا رب طلبتي لأقف أمامك بالغداة وتراني، لأنك إله لا ترضى الإثم، ولا يحل في مساكنك شرير، ولا يثبت مخالفو وصاياك بين يديك، أبغضت جميع عاملي الإثم، وأبدت كل الناطقين بالكذب؛ الرجل السافك الدماء الغاش الرب يرذله، وأنا بكثرة رحمتك أدخل بيتك، وأسجد في هيكل قدسك مستشعراً بخشيتك، اهدني يا رب بعدلك، ومن أجل أعدائي سهل أمامك طريقي، فإنه ليس في أفواههم صدق، بل الإثم في قلوبهم، حناجرهم قبور مفتحة، وألسنتهم غاشة، دنهم يا الله‏!‏ ومثل كثرة نفاقهم ارفضهم لأنهم أسخطوك يا رب، ويفرح بك جميع المتوكلين عليك، وإلى الأبد يسرون، وفيهم تحل بركتك، ويفتخر بك كل محبي اسمك، لأنك يارب تبارك الصديق، وكمثل سلاح، المسرة كللتنا‏.‏

المزمور السادس‏:‏ يارب‏!‏ لا تبكتني بغضبك، ولا تؤدبني بزجرك، ارحمني يا رب فإني ضعيف، اشفني يارب فإن عظامي قلقت، ونفسي جزعت جداً، وأنت نج نفسي وخلصني برحمتك، فليس في الموتى من يذكرك، ولا في الجحيم من يشكرك، تعبت في تنهدي، أحمم في كل ليلة سريري، وبدموعي أبلّ فراشي، ذبلت من السخط عيناي، ابعدوا عني يا جميع عاملي الإثم، فإن الرب سمع صوت بكائي، الرب سمع صوت تضرعي، الرب قبل صلاتي، يخزون ويبهتون جميع أعدائي، ويتضرعون ويسقطون جداً عاجلاً‏.‏

وفي المزمور التاسع‏:‏ أشكرك يا رب من كل قلبي، وأقص جميع عجائبك، أفرح وأسر بك، وأرتل لاسمك العلي حين تولى أعدائي على أدبارهم يضعفون ويبيدون من بين يديك، لأنك قضيت لي وانتقمت لي، استويت على العرش يا ديان الحق، زجرت الشعوب، أبدت المنافق أسقطت اسمه إلى الأبد وإلى أبد الأبد، لأنك أبدت سلاح العدو، وأفنيت مدائنه، وأزلت ذكرها، الرب دائم إلى الأبد، أعدَّ كرسيه للقضاء ليقضي للمسكونة بالعدل، ويدين الشعوب بالاستقامة‏.‏

المزمور الثاني عشر‏:‏ حتى متى يا رب تنساني إلى التمام‏؟‏ حتى متى يا رب تصرف وجهك عني‏؟‏ حتى متى تترك هذه الأفكار في نفسي والهموم والأوجاع في قلبي النهار كله‏؟‏ حتى متى يعلو عدوي عليّ‏؟‏ انظر إليّ واستجب لي يا ربي وإلهي‏!‏ أنر عيني لئلا أنام ميتاً، ولئلا يقول عدوي‏:‏ إني عليه قد قدرت، والمضطهدون لي يفرحون إذا أنا زللت، وأنا على رحمتك توكلت، فلبي بخلاصك يفرح، أرتل الرب الذي صنع لي حسناً، وأسبح اسم الرب العالي‏.‏

المزمور الرابع عشر‏:‏ يا رب من يسكن في مسكنك أو من يحل في طور قدسك‏؟‏ ذاك الذي يمشي بلا عيب ويعمل البر ويتكلم في قلبه بالحق، ولا يغش بلسانه أحداً، ولا يصنع بقريبه سوءاً، ولا يلتمس لجيراته عاراً، عيناه تشنأ الأثمة، يمجد أتقياء الرب، يحلف لقريبه ولا يكذب، ولا يعطي فضته بالربا، ولا يقبل الرشوة على الأزكياء، الذي يفعل هذا يدوم ولا يحول إلى الأبد‏.‏

المزمور السادس عشر‏:‏ استمع يا الله ببري، وانظر إلى تواضعي، وأنصت لصلاتي من شفتين غير غاشتين، من قدامك يخرج قضائي، عيناك تنظران الاستقامة، بلوت قلبي وتعاهدتني، جربتني فلم تجد فيّ ظلماً، ولم يتكلم فمي بأعمال الشر، من أجل كلام شفتيك حُفظت طرق صعبة لكيما يشتد في سبلك نهوضي ولا تزل خطاي، وإذا ما دعوتك استجب لي، اللهم أنصت إليّ أسمعك، وتقبل دعائي يا مخلص المتوكلين عليك، خلصني بيمينك من المضادين لي، احفظني مثل حدقة العين، وبظلال جناحك ظللني، من وجه المنافقين الذين أجهدوني، وأعدائي الذين اكتنفوا نفسي، تفقدت شحومهم، وتكلمت أفواههم بالكبرياء، عندما أخرجوني أحاطوا بي، نصبوا عيونهم ليضربوا بي الأرض، استقبلوني مثل الأسد المستعد للفريسة، ومثل الشبل الذي يأوي في خفية، قم يا رب‏!‏ أدركهم وعرقلتهم، ونج نفسي من المنافقين، ومن سيف أعدائك، اللهم عن قرب شتتهم في الأرض، اقسمهم في حياتهم‏.‏

المزمور السابع عشر‏:‏ أحبك يا رب قوتي‏!‏ الرب رجائي وملجأي ومخلصني إلهي عوني، عليه توكلي، ساتري وخلاصي وناصري، أسبح الرب وأدعوه، أنجو من أعدائي، لأن غمرات الموت اكتنفتني، وأودية الأثمة أفزعتني، أحاطت بي أهوال الجحيم، شباك الموت أدركتني، وعند شدتي دعوت الرب، وإلى إلهي صرخت، سمع من هيكل قدسه صوت دعائي، أمامه يدخل إلى مسامعه، تزلزلت الأرض وارتعدت، تحركت أساسات الجبال وتزعزعت من أجل أن الرب غضب عليها، صعد الدخان من رجزه والتهبت النار أمامها، اشتعل منه جمر نار، طأطأ السماوات، والضباب تحت رجليه، طار على أجنحة الرياح، جعل الظلمة حجابه، تحوط مظلته مياه مظلمة في سحب الهواء من الزمهرير ظلاله، ومن بريق نور وجهه جعل الغمام يجري بين يديه، برداً وجمر نار، أرعد الرب من السماء، وأبدى العلي صوته، أرسل سهاماً وفرقهم، وأكثر البرق وأفزعهم وأقلقهم، ظهرت عيون المياه، وانكشفت أساسات المسكونة من انتهارك يا رب‏!‏ ومن هبوب الريح سخطك، أرسل من العلى وأخذني، نشلني من المياه الغزيرة، وخلصني من أعدائي الأشداء، ومن المبغضين لي، لأنهم تقووا أكثر مني، سبقوني في يوم حزني، نجاني في يوم جزعي، الرب صار لي سنداً، أخرجني إلى السعة، وأنقذني لأنه ترأف لي، خلصني من أعدائي الأشداء المبغضين، جازاني الرب مثل بري، ومثل طهر يدي يعطيني، لأني حفظت سبل الرب، ولم أبعد من إلهي، إذ كل أحكامه قدامي، وعدله لم أبعده عني، أكون معه بلا عيب، ولم تزدحف خطاي، جازاني الرب مثل بري، ومثل طهر يدي أمامه، مع العفيف عفيفاً تكون، ومع البار باراً تكون، ومع الملتوي ملتوياً تكون، ومع المختار مختاراً تكون، من أجل أنك تنجي الشعب المتواضع وتذل أعين المتعظمين، وأنت يا رب تضيء سراجي، لأني بك أنجو من الرصد، وبإلهي اعبر السور، والله لا ريب في سبله، كلام الرب مختبر، يخلص جميع المتوكلين عليه، لا إله مثل الرب، ولا عزيز مثل إلهنا، الإله الذي عضدني بقوته، جعل سبلي بلا عيب، ثبت قدمي، وعلى المشارق رفعني، علم يدي القتال، شدد ذراعي مثل قوس نحاس، أعطاني الخلاص، يمينه نصرتني، وأدبه أقامني إلى التمام، حكمتك علمتني، وسعت خطاي تحتي، ولم تضعف قدماي، أطلب أعدائي وأدركهم، ولا أرجع حتى أفنيهم، أرميهم فلا يستطيعون القيام، يسقطون تحت قدمي، عضدتني بقوة في الحرب، جعلت كل الذين قاموا عليّ تحتي، أبدت أعدائي، استأصلت الذي شنؤوني، صرخوا فلم يكن لهم مخلص، رغبوا إلى الله فلم يستجب لهم، أسحقهم مثل الثرى أمام الريح، وكمثل طين الطرق أطؤهم، نجني من مقاومة الألسن، سيرني رأساً على الشعوب، الشعب الذي لا أعرفه تعبد لي، سمع لي سماع الأذن، بنو الغرباء أقبلوا وأطيعوني، ولم يؤمن بي بنو الغرباء، حي هو الله، وتبارك إله خلاصي، تعالى الرب الذي أنقذني، الله الذي ثبّت لي الانتقام، أخضع الشعوب تحتي، ونجاني من أعدائي، ورفعني على الذين قاموا عليّ، ومن الرجال الأثمة نجاني، لذلك أشكرك يا رب بين الشعوب، وأرتل لاسمك‏.‏

المزمور الحادي والعشرون‏:‏ إلهي إلهي لماذا تركتني‏؟‏ تباعدت عن خلاصي لقول جهلي، إلهي دعوتك بالنهار فلم تستجب لي، وفي الليل فلم يكن مني جهلاً، أنت كائن في القديسين يا فخر إسرائيل، بك آمن آباؤنا، وتوكلوا عليك فنجيتهم، وصرخوا إليك فخلصتهم، رجوك فلم يخزوا، وأنا فدودة ولست إنساناً، عار في الناس، مرذول في الشعب، كل من رآني يمقتني، تكلموا بشفاههم وهزوا رؤوسهم وقالوا‏:‏ إن كان آمن أو توكل على الرب فلينجه، ويخلصه إن كان يحبه، وأنت من البطن أخرجتني، ومذ كنت أرتضع من بطن أمي ألقيت إليك، وعليك من الرحم توكلت، ومن بطن أمي أنت إلهي فلا تبعد عني، فإن الشدة قريبة، وليس من يخلصني، أحاطت بي عجول كثيرة، اكتنفتني ثيران سمان، فتحت أفواهها على مثل الأسد الزائر المفترس، ومثل الماء انهرقت عظامي، وصار قلبي مثل الشمع المذاب في وسط بطني، يبست قواي مثل الفخار، لصق لساني بحنكي، وإلى تراب الموت أنزلتني، أحاطت بي كلاب كثيرة، اكتنفتني جماعة الأشرار، ثقبوا يدي ورجلي، وزعزعوا جميع عظامي، نظروا إليّ وشتموني، واقتسموا بينهم ثيابي، واقترعوا على لباسي، وأنت يا رب فلا تبعد من معونتي، انظر إلى تضرعي، نج من السيف نفسي، ومن يد الكلاب التي احتوشتني، ومن فم الأسد خلصني، ومن القرن المتعالي على تواضعي، لأبشر باسمك إخوتي، وبين الجماعة أمجدك، أيها الخائفون من الرب مجدوه‏!‏ يا جميع ذرية يعقوب سبحوه‏!‏ يخشاه كل زرع إسرائيل، لأنه لم يهن ولم يرذل دعوة المسكين، ولا صرف وجهه عني، وعند دعائي استجاب لي، يأكل المساكين ويشبعون، ويسجد قدامه جميع قبائل الشعوب، لأنه الملك الرب، وسلطانه على الأمم، تأكل وتسجد قدام الرب جميع ملوك الأرض، وبين يديه يجثو جميع هابطي التراب لله، يحيي نفسي، وذريتي له تتعبد، أخبروا بالرب أيها الجيل الآتي، وحدثوا بعدله، ليرى الشعب الذي يولد صنع الرب‏.‏

المزمور الثلاثون‏:‏ عليك يارب توكلت فلا أخزى إلى الأبد، خلصني وأنقذني بعدلك، أنصت لي بسمعك، واستنقذني عاجلاً، كن لي إلهاً نصيراً وملجأ ومخلصاً لأنك عوني وملجئي، وباسمك يارب تهديني وتعينني وتخرجني من هذا الفخ الذي أخفي لي، لأنك ناصري، وفي يدك أسلم روحي، نجني يا رب إله الحق، شنأت الذين يغتبطون بالأوثان الباطله، وأنا على الرب توكلت، أفرح وأسر برحمتك لأنك نظرت إلى تواضعي، وخلصت نفسي من الشدائد، ولمن تسلمني في أيدي الأعداء، اقمت رجلي في السعة، ارحمني يا رب فإني حزين، جزعت عيناي من سخطك، ونفسي وقواي، فني عمري بالأحزان، وسني بالزفرات، ضعفت بالمسكنة قوتي وقلقت عظامي، صرت عاراً في أعدائي وجيرتي، ورهبة لمن عرفني، من عاينني تباعد عني، ونسوني في قلوبهم مثل الميت، صرت مثل إناء مكسور، لأني سمعت سب جميع من حولي، هموا بي وعند اجتماعهم عليّ جميعاً تآمروا لأخذ نفسي، فأنا يا رب عليك توكلت، قلت‏:‏ أنت إلهي، وفي يدك قسمي، نجني من يد أعدائي والطاردين لي، أضئ وجهك على عبدك، وخلصني برحمتك، يارب لا تخزني فإني دعوتك، تخزي المنافقين ويهبطون إلى الجحيم، تبكم الشفاه الغاشة المتقولة على الصديق بالزور والبهتان، ما أكثر رحمتك يا رب لجميع خائفيك، أعددتها لمن اعتصم بك أمام بني البشر، استرهم في كنفك من أشرار الناس وفي ظلال وجهك، وقهم من مقاومة الألسن، تبارك الرب الذي انتخب له الأصفياء في المدينة العظيمة، أنت قلت في تحيري‏:‏ إني سقطت من حذاء عينيك، ولذلك سمعت صوت تضرعي حين دعوتك، حبوا الرب يا جميع أصفيائه، فإن الرب يبتغي الحق، ويكافئ المستكبرين بفعلهم، تشتد قلوبكم وتقوى أيها المتوكلون على الرب‏.‏

المزمور الثالث والثلاثون‏:‏ أبارك الرب في كل حين، وكل أوان تسبيحه في فمي، بالرب تفتخر نفسي، فليسمع أهل الدعة ويفرحوا، عظموا معي الرب وشرفوا اسمه أجمعون، أنا طلبت الرب فأجابني، ومن شدائدي نجاني، أقبلوا إلى الرب واستتروا به، فإن وجوهكم لا تخزى، إن المسكين دعا فاستجاب له الرب، ومن جميع أحزانه خلصه، ملك الرب يحوط أتقياءه وينجيهم، ذوقوا وتيقنوا طيب الرب، طوبى للرجل المتوكل عليه، اتقوا الرب ياجميع قديسيه لأنه لا منقصة لأتقيائه، الأغنياء افتقروا وجاعوا، والذين يطلبون الرب لا يعدمون كل الخيرات، هلموا أيها الأبناء واسمعوا مني لأفهمكم مخافة الرب، من هو الرجل الذي يهوى الحياة ويحب أن يرى الأيام الصالحة، اكفف لسانك من الشر وشفتيك، لا تتكلم بالغدر، ابعد عن الشر، واصنع الخير، اطلب السلامة واتبعها، فإن عين الرب على الأبرار، وسمعه إلى تضرعهم، وجه الرب على صانعي الشر ليمحو ذكرهم من الأرض، الأبرار دعوا فاستجاب لهم الرب، من جميع شدائدهم نجاهم، الرب قريب من مستقيمي القلوب، يخلص متواضعي الأرواح، كثيرة هي أحزان الصديقين، ومن جميعها ينجيهم الرب، الرب يحفظ جميع عظامهم، وواحد منهم لا ينكسر، موت الخطأة سيئ، ومبغضو البار يهلكون، الرب ينجي نفوس عبيده، ولا يخيب المتوكلين عليه‏.‏

المزمور الرابع والثلاثون‏:‏ حاكم يا رب الذين يظلمونني، قاتل الذي يقاتلونني، خذ سلاحاً وترساً وقم لمعونتي، استل سيفاً ورد به أعدائي الذين يرهقونني، وقل لنفسي‏:‏ أنا مخلصك، يخزى ويبهت طالبو نفسي، يرتدون على أعقابهم ويخزي الذين يتفكرون بي الشر، ويكونون كالغبار أمام الريح، وملك الرب يخزيهم، تكون طريقهم زلقة ظلمة عليهم وملك الرب يطاردهم، لأنهم أخفوا لي فخاً، بغير حق عيروا نفسي، فليأتهم الشر بغتة، والمصيدة التي أخفوها تأخذهم، وفي الحفرة التي حفروها يسقطون، نفسي تبتهج بالرب، وتنعم بخلاصه، عظامي كلها تقول‏:‏ يا رب من مثلك منجي المسكين من يد القوي، والفقير والبائس من يد الذين يختطفونه، قام عليّ شهود الزور، وعما لم أعلم ساءلوني، جازوني بدل الخير شراً، وأبادوا نفسي وأنا عندما لجوا عليّ لبست مسحاً، وبالصيام أذللت نفسي، وصلاتي عادت إلى حضني، مثل قريب وأخ كنت لهم، صرت كالحزين الكئيب في تواضعي، اجتمعوا عليّ وفرحوا، اجتمع عليّ الأشرار ولم أشعر، أثموا ولم يندموا، أحزنوني وهزؤوا بي وصروا أسنانهم عليّ، يا رب إلى متى تنتظر‏!‏ نج نفسي من شر ما نصبوا، ومن الأسد نج وحدتي، لأشكرك يا رب في الجموع الكثيرة وفي الشعب الصالح أرتل لك، لا يسر بي المعادون لي ظلماً، الذين يشنؤونني باطلاً ويتغامزون بعيونهم، لأنهم يتكلمون بالسلام وبالدغل يفكرون، وعلى المتواضعين في الأرض يقولون الكذب، فتحوا عليّ أفواههم، وقالوا‏:‏ نعماً نعماً‏!‏ قد قرت به عيوننا، اللهم قد رأيت، لا تغفل، لا تبعد عني يا رب‏!‏ انظر سريعاً في قضائي إلهي وربي، كن في ظلامتي، واحكم لي مثل برك يا ربي وإلهي، لا تسرهم بي، لئلا يقولوا في قلوبهم‏:‏ تفتحت نفوسنا، ولا يقولوا‏:‏ قد ابتلعناه، يخزون ويهنون جميعاً الذين يفرحون بإساءتي، يلبس الخزي والبهت المتعظمون بالقول عليّ يسر ويفرح الذين يهوون بري، ويقولون في كل حين‏:‏ عظيم هو الرب، الذين يريدون سلامة عبدك، لساني يتلو عدلك وتمجيدك النهار كله‏.‏

المزمور السادس والثلاثون‏:‏ لا تغبط الأشرار ولا تتأسّ بفاعلي الإثم، لأنهم مثل العشب سريعاً يجفون، ومثل البقل الأخضر عاجلاً يذبلون، توكل على الرب واصنع الخير، واسكن في الأرض، وعش من نعيمها، استبشر بالرب يعطيك مطلوبات قلبك، واكشف سبلك للرب وتوكل عليه وهو يصنع لك، يخرج مثل النور عدلك، ومثل الظهيرة أحكامك، اخضع للرب واضرع إليه، لا تغبط الرجل المستقيم في طريقه المقيم على إثمه، ولا رجلاً يعمل بخلاف الناموس، اكفف من السخط، ودع الغضب، لا تبار الشرير، فإن الأشرار جميعاً يبيدون، والذين يرجون الرب يرثون الأرض عن قليل، لا يوجد الخاطئ، ويطلب مكانه فلا يوجد، أهل الدعة يرثون الأرض، ويتنعمون بكثرة السلامة، المنافق يرصد الصديق ويصر عليه أسنانه، والرب يهزأ به، لأنه قد علم أن يومه يدركه، استل الخطأة سيوفهم، وأوتروا قسيهم، ليصرعوا المسكين والبائس، ويقتلوا المستقيم القلب، تدخل سيوفهم إلى قلوبهم، وتنكسر قسيهم، اليسير للصديق خير من كثرة غنى الخطأة، لأن سواعد الخطأة تنكسر، والرب يحفظ الأبرار، الرب يعرف أيام صديقيه الذين لا عيب فيهم وميراثهم إلى الأبد، ولا يخزون في زمان سوء، وفي أيام الشدائد يشبعون، لأن الأثمة يبيدون، أعداء الرب حين يرتعون ويتمجدون يذهبون مثل الدخان ويضمحلون، الخاطئ يقترض ولا يوفى، والبار يترأف ويعطي، لأن مباركيه يرثون الأرض، ولا غيه يستأصلون، الرب يقوِّم خطأ الإنسان ويهديه في الطريق، إن سقط البار لم يجزع، لأن الرب ممسك بيده، كنت صبياً وشخت ولم أر صديقاً رفض، ولا ذريته طلبت خبزاً النهار كله يترحم ويقرض ونسله مبارك، ابعد عن الشر وافعل الخير، واسكن إلى أبد الأبد، لأن الرب يحب العدل، ولا يضيع أصفياءه، يحفظهم إلى أبد الأبد، الأثمة يهلكون ونسل الخطأة يستأصلون، الصديقون يرثون الأرض ويسكنون فيها إلى أبد الأبد، فم الصديق ينطق بالحكمة ولسانه يقول العدل، سنة إلهه في قلبه، ولا تزدحف قدماه، الخاطئ يرصد البار ويهم بقتله، والرب لا يسلمه في يديه، ولا يدخله في الحكم، ترج الرب واحفظ طرقه، وهو يرفعك لترث الأرض وتعاين الخطأة يبيدون، رأيت المنافق يتعالى‏:‏ ويتطاول مثل أرز لبنان، مررت به فلم أجده وطلبت موضعه فلم أصبه، تمسك بالدعة وسترى الاستقامة، فإن عاقبة الرجل المستقيم سلامة، الخطأة جميعاً يبيدون، وبقايا الأشرار يستأصلون، خلاص الأبرار من عند الرب وهو ناصرهم في زمان الشدائد، الرب عونهم ومنجيهم ومنقذهم من الخطأة، ويخلصهم لأنهم توكلوا عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 112‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ‏(‏106‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏107‏)‏ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏108‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ‏(‏109‏)‏ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ‏(‏110‏)‏ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏111‏)‏ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

ولما كان ما ذكر في هذه السورة من الحكم والدلائل والقصص واعظاً شافياً حكيماً، ومرشداً هادياً عليماً، قال واصلاً بما تقدم إشارة إلى أنه نتيجته‏:‏ ‏{‏إن في هذا‏}‏ أي الذي ذكرناه هنا من الأدلة على قدرتنا على قيام الساعة وغيرها من الممكنات، وعلى أن من ادعى علينا أمراً فأيدناه عليه وجعلنا العاقبة له فيه فهو صادق محق، وخصمه كاذب مبطل ‏{‏لبلاغاً‏}‏ لأمراً عظيماً كافياً في البلوغ إلى معرفة الحق فيما ذكرناه من قيام الساعة والوحدانية وجميع ما تحصل به البعثة ‏{‏لقوم‏}‏ أي لأناس أقوياء على ما يقصدونه ‏{‏عابدين*‏}‏ أي معترفين بالعبودية لربهم الذي خلقهم اعترافاً تطابقه الأفعال بغاية الجد والنشاط‏.‏

ولما كان هذا مشيراً إلى رشادهم، فكان التقدير‏:‏ فما أرسلناك إلا لإسعادهم والكفاية لهم في البلاغ إلى جنات النعيم، عطف عليه ما يفهم سبب التأخير لإنجاز ما يستعجله غير العابدين من العذاب فقال‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك‏}‏ أي بعظمتنا العامة على حالة من الأحوال ‏{‏إلا‏}‏ على حال كونك ‏{‏رحمة للعالمين*‏}‏ كلهم، أهل السماوات وأهل الأرض من الجن والأنس وغيرهم، طائعهم بالثواب، وعاصيهم بتأخير العقاب، الذي كنا نستأصل به الأمم، فنحن نمهلهم ونترفق بهم، إظهاراً لشرفك وإعلاء لقدرك، حتى نبين أنهم مع كثرتهم وقوتهم وشوكتهم وشدة تمالئهم عليك لا يصلون إلى ما يريدون منك، ثم نرد كثيراً منهم إلى دينك، ونجعلهم من أكابر أنصارك وأعاظم أعوانك، بعد طول ارتكابهم الضلال، وارتباكهم في أشراك المحال، وإيضاعهم في الجدال والمحال، فيلعم قطعاً أنه لا ناصر لك إلا الله الذي يعلم القول في السماء والأرض، ومن أعظم ما يظهر فيه هذا الشرف في عموم الرحمة وقت الشفاعة العظمى يوم يجمع الأولون والآخرون، وتقوم الملائكة صفوفاً والثقلان وسطهم، ويموج بعضهم في بعض من شدة ما هم فيه، يطلبون من يشفع لهم في أن يحاسبوا ليستريحوا من ذلك الكرب أما إلى جنة أو نار، فيقصدون أكابر الأنبياء نبياً نبياً عليهم الصلاة والسلام، والتحية والإكرام، فيحيل بعضهم على بعض، وكل منهم يقول‏:‏ لست لها، حتى يأتوه صلى الله عليه وسلم فيقول‏:‏ أنا لها، ويقوم ومعه لواء الحمد فيشفعه الله وهو المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون وقد سبقت أكثر الحديث بذلك في سورة غافر عند ‏{‏ولا شفيع يطاع‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 18‏]‏‏.‏

ولما كان البلاغ الذي رتب هذا لأجله هو التوحيد الملزوم لتمام القدرة، أتبع الإشارة إلى تأخيرهم الإيمان إلى تحذيرهم فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لكل من يمكنك له القول‏:‏ ‏{‏إنما يوحى إليّ‏}‏ أي ممن لا موحي بالخير سواه وهو الله الذي خصني بهذا الكتاب المعجز ‏{‏أنما إلهكم‏}‏‏.‏

ولما كان المراد إثبات الوحدانية، لإله مجمع على إلهيته منه ومنهم، كرر ذكر الإله فقال‏:‏ ‏{‏إله واحد‏}‏ لا شريك له، لم يوح إليّ في أمر الإله إلا الوحداينة، وما إلهكم إلا واحد لمن يوح إليّ فيما تدعون من الشركة غير ذلك، فالأول من قصر الصفة على الموصوف، أي الحكم على الشيء، أي الموحي به إليّ مقصور على الوحدانية لا يتعداها إلى الشركة، والثاني من قصر الموصوف على الصفة، أي الإله مقصور على الوحدة لا يتجاوزها إلى التعدد، والمخاطب بهما من يعتقد الشركة، فهو قصر قلب‏.‏

ولما انضم إلى ما مضى من الأدلة العقلية في أمر الوحدانية هذا الدليل السمعي، وكان ذلك موجباً لأن يخشى إيجاز ما توعدهم به فيخلصوا العبادة لله، أشار إلى ذلك مرهباً ومرغباً بقوله‏:‏ ‏{‏فهل أنتم مسلمون*‏}‏ أي مذعنون له ملقون إليه مقاليدكم متخلون عن جميع ما تدعونه من دونه لتسلموا من عذابه وتفوزوا بثوابه، ففي الآية أن هذه الوحدانية يصح أن يكون طريقها السمع‏.‏

ولما كان توليهم بعد هذه القواطع مستبعد، أشار إلى ذلك بإيراده بأداة الشك فقال‏:‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ أي لم يقبلوا ما دعوتهم إليه ‏{‏فقل‏}‏ أي لهم‏:‏ ‏{‏ءاذنتكم‏}‏ أي أعلمتكم ببراءتي منكم وأني غير راجع إليكم أبداً كما أنكم تبرأتم مني ولم ترجعوا إليّ، فصار علمكم أن لا صلح بيننا مع التولي كعلمي وعلم من اتبعني‏.‏ لتتأهبوا لجميع ما تظنونه ينفعكم، فهو كمن بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدره، فنبذ إليهم العهد، شهر ذلك النبذ وأشاعه فلم يخفه عن أحد منهم، وهو مما اشتهر أنه بلغ النهاية في الفصاحة والوجازة، أو أبلغتكم جميع ما أرسلت به ولم أخص به أحداً دون أحد، وهذا كله معنى ‏{‏على سواء‏}‏ أي إيذاناً مستعلياً على أمر نصف وطريق عدل، ليس فيه شيء من خفاء ولا غش ولا خداع ولا عذر، بل نستوي فيه نحن وأنتم‏.‏

ولما كان من لازم البراءة من شخص الإيقاع به كان موضع أن يقولوا هزؤاً على عادتهم‏:‏ نبذت إلينا على سواء فعجل لنا ما تتوعدنا به، فقال‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ أي وما ‏{‏أدري أقريب‏}‏ جداً بحيث يكون قربه على ما تتعارفونه ‏{‏أم بعيد ما توعدون*‏}‏ من عذاب الله في الدنيا بأيدي المسلمين أو بغيره، أو في الآخرة مع العلم بأنه كائن لا محالة، وأنه لا بد أن يلحق من أعراض عن الله الذل والصغار‏.‏

ولما كان من المقطوع به من كون الشك إنما هو في القرب أو البعد أن يكون التقدير‏:‏ لكنه محقق الوجود، لأن الله واحد لا شريك له، وقريب عند الله، لأن كل ما حقق إيجاده قريب، علله بقوله‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ أي الله تعالى ‏{‏يعلم الجهر‏}‏ ولما كان الجهر قد يكون في الأفعال، بينه بقوله‏:‏ ‏{‏من القول‏}‏ مما تجاهرونه به من العظائم وغير ذلك، ونبه الله تعالى على ذلك لأن من أحوال الجهر أن ترتفع الأصوات جداً بحيث تختلط ولا يميز بينها ولا يعرف كثير من حاضريها ما قاله أكثر القائلين، فأعلم سبحانه أنه لا يشغله صوت عن آخر ولا يفوته شيء عن ذلك ولو كثر ‏{‏ويعلم ما تكتمون*‏}‏ مما تضمرونه من المخازي كما قال تعالى أولها ‏{‏قل ربي يعلم القول في السماء والأرض‏}‏ ومن لازم ذلك المجازاة عليه بما يحق لكم من تعجيل وتأجيل، فستعلمون كيف يخيب ظنونكم ويحقق ما أقول، فتقطعون بأني صادق عليه ولست بساحر، ولا حالم ولا كاذب ولا شاعر، فهو من أبلغ التهديد فإنه لا أعظم من التهديد بالعلم‏.‏

ولما كان الإمهال قد يكون نعمة، وقد يكون نقمة، قال‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ وما ‏{‏أدري‏}‏ أي أيكون تأخير عذابكم نعمة لكم كما تظنون أو لا‏.‏ ولما كان إلى كونه نقمة أقرب، قال معبراً عما قدرته‏:‏ ‏{‏لعله‏}‏ أي تأخير العذاب وإيهام الوقت ‏{‏فتنة لكم‏}‏ أي اختبار من الله ليظهر ما يعلمه منكم من الشر لغيره، لأن حالكم حال من يتوقع منه ذلك ‏{‏ومتاع‏}‏ لكم تتمتعون به ‏{‏إلى حين*‏}‏ أي بلوغ مدة آجالكم التي ضربها لكم في الأزل، ثم يأخذكم بغتة أخذه يستأصلكم بها‏.‏

ولما كان اللازم من هذه الآيات تجويز أمور تهم سامعها وتقلقه للعلم بأن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء من عدل وفضل، وكان من العدل جواز تعذيب الطائع وتنعيم العاصي، كان كأنه قيل‏:‏ فما قال الرسول الشفوق على الأمة حين سمع هذا الخطاب‏؟‏ فقيل‏:‏ قال مبتهلاً إلى الله تعالى- هذا على قراءة حفص‏.‏ وعلى قراءة الجمهور‏:‏ لما علم سبحانه أن ذلك مقلق، أمره صلى الله عليه وسلم بما يرجى من يقلق من أتباعه فقال‏:‏ ‏{‏قال رب‏}‏ أي ايها المحسن إلي في نفسي واتباعي بامتثال أوامرك واجتناب نواهيك ‏{‏احكم‏}‏ أي أنجز الحكم بيني وبين هؤلاء المخالفين ‏{‏بالحق‏}‏ أي بالأمر الذي يحق لكل منا من نصر وخذلان على ما أجريته من سنتك القديمة في أوليائك وأعدائك ‏{‏ما ننزل الملائكة إلا بالحق‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 8‏]‏ أي الأمر الفصل الناجز، قال ابن كثير‏:‏ وعن مالك عن زيد بن أسلم‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد قتالاً قال ‏{‏رب احكم بالحق‏}‏‏.‏ وفي الآية أعظم حث على لزوم الإنسان بالحق ليتأهل لهذه الدعوة‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فربنا المنتقم الجبار له أن يفعل ما يشاء وهو قادر على ما توعدون، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وربنا‏}‏ أي المحسن إلينا أجمعين؛ ثم وصفه بقوله‏:‏ ‏{‏الرحمن‏}‏ أي العام الرحمة لنا ولكم بإدرار النعم علينا، ولولا عموم رحمته لأهلكنا أجمعين وإن كنا نحن أطعناه، لأنا لا نقدره حق قدره ‏{‏لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة‏}‏ والحاصل أنه لما سأل ‏{‏الحق‏}‏ المراد به الهلاك للعدو والنجاة للولي، أفرد الإضافة إشارة إلى تخصيصه بالفضل، وإفرادهم بالعدل، ولما سأل العون عم بالإضافة والصفة قنوعاً بترجيح جانبه بالعون وإن شملتم الرحمة، ولأن من رحمتهم خليتهم عما هم عليه من الشر فقال‏:‏ ‏{‏المستعان‏}‏ أي المطلوب منه العون وهو خبر المبتدأ موصوف ‏{‏على ما تصفون*‏}‏ مما هو ناشئ عن غفلتكم الناشئة عن إعراضكم عن هذا الذكر من الاستهزاء والقذف بالسحر وغيره، والمناصبة بالعداوة والتوعد بكل شر، فقد انطبق آخر السورة على أولها بذكر الساعة رداً على قوله ‏{‏اقترب للناس حسابهم‏}‏ وذكر غفلتهم وإعراضهم وذكر القرآن الذي هو البلاغ، وذكر الرسالة بالرحمة لمن نسبوه إلى السحر وغيره، وتفصيل ما استعجلوا به من آيات الأولين وغير ذلك، وقام الدليل بالسمع بعد العقل على تحقق أمر الساعة بأنه سبحانه لا شريك له يمنعه من ذلك، وأنه يعلم السر وأخفى، وهو رحمن، فمن رحمته إيجاد يوم الدين ليجازي فيه المحسن بإحسانه، والمسيء بكفرانه، وفي ذلك أعظم ترهيب في أعلى حاث على التقوى للنجاة في ذلك اليوم، وهو أول التي تليها- والله الموفق‏.‏